شكرا لزيارتك..أتمنى أن تمدنى برأيك عن المدونة سلبيات إيجابيات،الموضوعات المفضلة لديك لنشرها..تساؤلاتك..علي البريد التالى:M.A.Zeineddin@gmail.com

الجمعة، يوليو 09، 2010

العظماء1-دكتور مراد غالب










































































































العظماء 
الدكتور مراد غالب 
مهندس العلاقات المصرية السوفيتية 




لعب أدوارًا متعددة في مراحل تاريخية متعاقبة نحو ستة عقود زمنية علي المستويين الداخلي والخارجي، وعلي الأصعدة السياسية والدبلوماسية والثقافية، خدم خلالها المصالح العليا لمصر.
وشملت هذه الأدوار مواقع متنوعة، بدأت بالنضال في صفوف الحركة الطلابية المصرية في أربعينيات القرن العشرين ضد الاحتلال البريطاني وفساد الحكم الملكي والحياة السياسية الرسمية في مصر سعيا لتحقيق أهداف التحرر الوطني والاجتماع وبناء حياة ديمقراطية سليمة، ومن ثم كان من الطبيعي أن يؤيد الدكتور مراد غالب حركة الجيش في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ - والتي تحولت إلي ثورة - عند اندلاعها وينخرط في صفوفها المتقدمة.
وفي ظل الثورة عمل الدكتور مراد غالب مديرا لمكتب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كما تولي مسؤولية أول برنامج طاقة نووية في تاريخ مصر، ثم انتقل إلي مهامه في وزرة الخارجية المصرية التي عمل بها فترة طويلة بعد ذلك، وفي هذا السياق كان أول من شغل منصب سفير مصر في الكونغو كنشاسا في أوج الصراع بين الزعيم الراحل باتريس لومومبا وخصومه المدعومين من الدول الاستعمارية.
وتعرضت حياة الدكتور مراد غالب خلال تلك الفترة لأخطار محدقة، ولكنه لم يعبأ بها وواصل عطاءه لأداء المهام المكلف بها خدمة للدور المصري المتعاظم حينذاك في أفريقيا دعمًا لحركات التحرر والاستقلال بها.
دور آخر لعبه الدكتور مراد غالب خلال عمله بوزارة الخارجية، حيث شغل منصب سفير مصر في موسكو، فكان أطول من شغل هذا المنصب - لمدة أحد عشر عامًا متواصلة في الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي- في وقت كان الاتحاد السوفيتي السابق فيه هو إحدي القوتين العظميين، وكان للعلاقات المصرية - السوفيتية انعكاساتها الحيوية علي مجمل الأوضاع الإقليمية وعلي عملية التنمية داخل مصر،
ومازال نجاح الدكتور مراد غالب في مهمته تلك نموذجًا حتي الآن لنجاح السفير والدبلوماسي، حيث وصل ذلك إلي تطور صداقة شخصية بينه وبين الزعيم السوفيتي الراحل نيكيتا خروتشوف جعلت الأخير يذكره بالاسم في مذكراته ويشير إلي احترامه لشخصه ورأيه كما استمر اتصال كبار السياسيين الروس به حتي الآن للتعرف علي آرائه بشأن مختلف القضايا والاسترشاد بحكمته وبصيرته.
وجاء تكليف الرئيس الراحل أنور السادات للدكتور مراد غالب بتولي منصب وزير الخارجية في مرحلة حساسة للغاية من الإعداد لحرب أكتوبر ١٩٧٣، وخلال تلك الفترة أدي مهام جساما علي صعيد التحضير عربيا ودوليا لحرب التحرير المرتقبة، إلا أنه نظرًا لاختلاف في الرؤي بين الدكتور مراد غالب كوزير للخارجية والقيادة السياسية حول قرار الرئيس الراحل بطرد الخبراء السوفيت من مصر عام ١٩٧٢،
 وأمور أخري، خرج الدكتور مراد غالب من منصبه الوزاري ليعين سفيراً لمصر في جمهورية يوغوسلافيا السابقة، ذات العلاقات الخاصة والمتميزة مع مصر منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، واستمر الدكتور مراد غالب في هذا الموقع، حتي قدم استقالته نظراً لاختلافه - مرة أخري - مع سياسات الرئيس الراحل السادات في إدارة الصراع مع إسرائيل عندما قام بزيارته القدس في نوفمبر ١٩٧٧ فيما بات يعرف بمبادرة السلام.
لم يتوقف عطاء الدكتور مراد غالب عند هذا الحد، بل تواصل وازدهر في بعده غير الحكومي ليؤكد حيوية دور المجتمع المدني، في بلدان العالم الثالث، حيث انتخب رئيساً لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتي رحل عن دنيانا.. للفقيد الرحمة ولمصر الصبر والسلوان.

مجموعة حلقات مع الدكتور مراد غالب 
إضغط عليها للمشاهدة مباشرة







شاهد على العصر - د. مراد غالب - الجزء الأول 



الدكتور مراد غالب خاص السياسية
بقلم:أحمد منصور: حينما سألت الدكتور مراد غالب، مهندس العلاقات المصرية السوفييتية، و وزير الخارجية المصري الأسبق في إحدى جلساتي معه للتحضير لتسجيل شهادته في برنامجي التليفزيوني" شاهد على العصر" عن رؤيته لما  آل إليه الوضع في مصر الآن، وقراءته للمستقبل ؟  نظر إلي نظرة طويلة صامته، ثم اغرورقت عيناه بالدموع، ثم أجهش بالبكاء، جلست في مكاني صامتا لا أتحرك، ولا أتكلم، وأنا أشعر بحرج بالغ مما سببته للرجل الذي جفف دموعه، واستعاد رباطة جأشه بعد قليل، ثم قال لي: " أعتذر إليك لم أتمالك نفسي"،  فقلت له: "آمل ألا يكون في سؤالي ما يؤلم، ولكنه السؤال الذي يسأله الجميع في مصر الآن؟ ماذا حل بمصر؟ وما هو مستقبلها في ظل ما هو قائم؟ ولعلك من أقدر السياسيين ذوي الخبرة الذين يمكن أن أجد عندهم الإجابة؟ ورغم أني سأسجل معك حلقات عن التاريخ لكني أعتقد أن الحاضر الذي تعيشه مصر الآن، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ليس سوى إفرازا، ونتيجة لذلك التاريخ الذي شاركت أنت  مع آخرين  في صناعته".
قال الدكتور غالب: "ذلك ما أبكاني... الذي أبكاني هو  ما آل إليه وضع مصر الآن، مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير، أفضل مما حدث، ويحدث لها، فحينما قبلت المشاركة مع رجال الثورة، وكنت من المدنيين القلائل القريبين منهم حيث كنت أعمل أستاذا للأنف، والأذن في كلية الطب، وكنت صديقا منذ الطفولة، لصلاح الدسوقي، وكمال رفعت، وحسن التهامي، الذين قدموني بعد الثورة لجمال عبد الناصر، وبعد ذلك  طلب عبد الناصر مني أن أترك التدريس في كلية الطب، وأتفرغ للعمل السياسي معهم، كنت مليئا بالأمل أننا سنحول مصر إلى واحدة من أفضل دول العالم، فلدينا كل شيء يؤهلنا لذلك الموقع الجغرافي، والتاريخ، والإنسان، وكافة العوامل الأخرى، التي يمكن لنا من خلالها أن نجعل مصر التي تقع جغرافيا في قلب العالم أن تكون بالفعل قلب العالم، لكننا للأسف أخطأنا جميعا ووصلت مصر بأعمالنا إلى ما وصلت إليه الآن، مصر بلد عظيم، وكانت ولازالت بحاجة  إلى أناس عظماء ليضعوها في المرتبة التي تليق بها، هل تعلم لماذا قررت أن أبني هذه الفيلا هنا في الصحراء   حيث أقضي نصف  أيام الأسبوع هنا، ونصفها تقريبا في القاهرة، إلا إذا كانت لدي اجتماعات هامة في منظمة تضامن الشعوب الافرو آسيوية التي أرأسها؟". قلت له: "لماذا؟". قال: "شعرت أني بحاجة إلى أن أفكر فيما قمت به، وما قدمته لبلدي وما كان ينبغي علي أن أقدمه، هنا أجد صفاء ونقاء وصلة بيني وبين الله افتقدتها طوال حياتي، هل تعرف كم أن النهار هنا صاف وهادئ؟ وكم أن الهواء نقي ومنعش؟ وكم أن  الليل هنا في الصحراء ساحر؟  لاسيما حينما أنظر إلى السماء وأتأمل النجوم  وأتفكر في خلق الله، إنني أقضي ساعات مطولة هنا  في الليل  أتفكر في النجوم والمجرات الهائلة في السماء، وكأنني أعرف وأرى سماء مصر لأول مرة، وقد أتيتني وأنا أقرأ في واحد من أهم الكتب عن أسرار السماء، والمجرات كتبه بروفيسور أميركي، حيث فتح لي هذا الكتاب آفاقا واسعة، ومعاني جليلة للتفكر والتمعن في السماء وخالقها وبنائها وكواكبها ونجومها ومجراتها لاسيما مع سكون الليل وهدوء الكون من حولي. كم أشعر الآن بعظم الخالق سبحانه! وكم أننا غافلون عن النعم وعن آيات الكون المحيطة بنا، وأننا لا ندرك ذلك إلا في لحظات من العمر قد تكون متأخرة! ولكني أحمد الله أنها أتت.
أما همُّ مصر فهو من الهموم التي لا تفارقني هنا، كثيرا ما أتألم في خلواتي هنا، وكثيرا ما أبكي على ما آل إليه وضع مصر، لكني عادة ما أكون وحدي.  لكن سؤالك جعلني لا  أستطيع أن أحبس دموعي بعدما قلبت المواجع في نفسي بهذا السؤال الذي  صادف همّا يلازمني، وهو همّ يصاحبه عجز وألم على ما آلت إليه الأوضاع في مصر، وما يمكن أن يؤول إليه مستقبلها، ولا أدري هل ما يبكيني هو العجز عن فعل ما كنت أود أن أفعله وأن أرى عليه مصر حينما تركت الطب واشتغلت بالسياسة! أم الندم على مشاركتي للآخرين فيما قاموا به وأوصلوا  مصر بتصرفاتهم إلى ما وصلت إليه رغم أني لا أشك في وطنيتهم! أم أن الإنسان في هذا السن تزداد عاطفته وتغلب عليه الجوانب الإنسانية فيصبح رقيق القلب والنفس فيتعامل مع الأمور بصورة أخرى فتتغلب عليه عاطفته وتكون دموعه هي الأقرب في بعض الأحيان؟
 كثيرا ما أفكر في الإنسان المصري، وكيف أنه لم يأخذ حظه ليكون له دور في تنمية بلده فلم يجد مفرا من أن يهاجر ليبدع أو يعيش يائسا محبطا في بلده. لقد فكرت كثيرا في فرص التنمية التي أهدرت وفي النتائج التي وصلنا إليها بعد هذه السنوات ولدي نقاش مطول معك في هذا الموضوع".
شعرت أن دموع الدكتور غالب أزالت كثيرا من الحواجز النفسية بيني وبينه، تلك الحواجز التي أبذل في بعض الأحيان جهدا كبيرا لأزالتها بيني وبين بعض ضيوفي، لاسيما وأن الكثيرين منهم يعرفونني من خلال الشاشة، حيث أبدوا قاسيا كما يصفني البعض، لكني حينما أقترب منهم خارجها أقترب بإنسانيتي أكثر من مهنيتي، لكن دموعه قربت كثيرا من تلك المسافات بيننا حتى فارق السن الذي يزيد عن أربعين عاما شعرت أنه ذاب وتلاشى حتى أصبحنا مثل الأصدقاء الذين يعرفون بعضهم منذ سنوات بعيدة، فرقت بينهم الأيام ثم جمعتهم مرة أخرى وأصبحت هناك ألفة عجيبة بيني وبينه، حتى أنه في كثير من الأحيان كان يحدثني وكأني في مثل سنه فيقول لي: "هل تذكر الحادث الفلاني"، ثم يسمي حادثا وقع في الأربعينيات أو الخمسينيات أو حتى بداية الستينيات من تلك الحوادث التي لم أقرأ عنها أو التي لا يعرفها سوى جيله هو. فأقول له ببراءة وأنا أبتسم: " طبعا لا أتذكر هذا الحادث، لأني لم أكن ولدت بعد". ثم نغرق سويا في الضحك، وأذكر أنه حتى أثناء تسجيل بعض الحلقات كان يقول ذلك، فأردد نفس الجملة ثم نضحك، فيروي لي هذا الحادث بشكل مفصل كأنما أشاهده الآن، وهو في هذا الجانب من أفضل من صادفتهم في الحياة ممن يجيدون الوصف ورواية المشاهد التاريخية كأنما تقع أمام المستمع أو المشاهد الآن.
 وأذكر أنه بعد  ذلك أصبح  هناك  تواصل دائم  بيننا حتى أني حينما كنت أتأخر في الاتصال به بعد ذلك بسبب أسفاري وانشغالاتي الكثيرة، كان حينما يسمع صوتي عبر الهاتف بمجرد أن أحييه  يقول لي بطريقة أحببتها دائما منه وهو يصيح كأنما يحدث صديقا عزيزا يعرفه من قديم: "أحمد، ياااااه!! إنت فين يا راجل؟! هشوفك إمتي؟".
كان الفارق هائلا بين لقائي هذا بالدكتور مراد غالب، الذي كان في شهر أكتوبر من  العام 2006 في فيلا أقامها في مزرعة صغيرة في عُمق الصحراء على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، ولقائي به قبل ذلك بأكثر من عامين  في شهر يوليو من  العام 2004، في فيلته بقرية "العبد" بالساحل الشمالي قرب مرسى مطروح، لترتيب تصوير شهادته في برنامجي التليفزيوني "شاهد على العصر"، وذلك بعد اتصالات هاتفية معه وترتيبات استمرت ما يقرب من عامين، وقد بدأت في العام 2002، وقد اصطحبت معي في تلك الزيارة  كلا من الصديق محمد مراد مهندس الديكورـ الدكتور غالب يكون عمه- والزميل مصطفى حسين الذي كان من المقرر أن يقوم بإخراج البرنامج آنذاك، والمهندس مصطفى عز الدين مهندس الإضاءة، حيث كان المطلوب منهم أن يقرروا فنيا مدى إمكانية التصوير في الفيلا؛ لأن الدكتور غالب أبلغني أنه يقضي شهور الصيف كلها هناك، ولا يعود إلى القاهرة إلا في أكتوبر، وكنت وقتها قد أعددت نفسي للتصوير خلال شهر يوليو من العام 2004. لكن التقرير الفني كان هاما بالنسبة لي قبل بدء التصوير لاسيما وأن الإضاءة ستلعب دوارا هاما في التصوير، كما كان علي أن أرتب ما أسميه بـ"جلسات الاستماع"، وهي جلسات عادة ما أعقدها مع شهود العصر للحديث بحرية وكسر الحواجز النفسية وتناول الفترات التاريخية التي سوف نتعرض لها حتى أقوم بعدها بترتيب المادة العملية ودراستها من الكتب والمصادر المختلفة ثم أحدد موعدا للتسجيل.
استغرق الطريق من القاهرة إلى  قرية "العبد" حيث كان يقيم الدكتور مراد غالب حوالي خمس ساعات  تعرضت خلالها لانتقادات شديدة من رفاقي بسبب التزامي بسرعة الطريق حيث أني أتحاشى السرعة  دائما، وأتجنب أن أضع نفسي في مواضع الحرج مع ضباط المرور وأتعرض لسحب رخصة القيادة.  وبعد توالي الاعتراضات منهم اضطررت في النهاية أن أترك القيادة للمهندس محمد مراد قبيل الوصول إلى منطقة "سيدي عبد الرحمن"، وفي أول خمس دقائق من قيادته للسيارة أوقفنا من قبل شرطة المرور بسبب السرعة الفائقة التي كان يقود بها. وكانت المشكلة الأكبر أن مراد لم يكن يحمل  رخصة القيادة، فقد تركها في سيارته في القاهرة حينما التحق بي وركب في سيارتي، وبالتالي تم سحب رخصة السيارة، فطلبت منهم جميعا- ونحن غارقون في الدعابة والضحك الساخر- أن يعيدوا القيادة لي أو يلتزم من شاء منهم بالقيادة بسرعة الطريق، لاسيما وأن الرخصة التي سحبت هي لسيارتي وسوف أساءل قانونيا حينما أراجع إدارة المرور لاسترداد رخصة سيارتي عن سبب منحي القيادة لسائق لا يحمل رخصة قيادة، علاوة على ضياع وقتي في محاولات استعادة الرخصة، ولعل التزامي بسرعة الطريق جعل الرحلة شاقة وطويلة  إلى  حد ما على الجميع.
بعد هذه الرحلة الشاقة والمرهقة كان السؤال الأول من الدكتور مراد غالب، بعدما وصلنا، مفاجئا لنا جميعا، فقد قال: ماذا تحبون أن تشربوا؟ وقبل أن يجيب أي منا واصل قائلا بجدية: "كل شيء متوفر، فودكا، براندي، بلاك  ليبل". وقبل أن يستمر في سرد أنواع الخمور المختلفة فوجئت بأن الرفاق جميعا ردوا عليه  بالرفض والاعتراض، حتى كان رد بعضهم  يحمل شيئا من الاستنكار والحدة  بشكل أذهلني، حتى أن أحدهم قال: "أعوذ بالله ... "،  ولأني كثير السفر وألتقي مع أنواع مختلفة من البشر من شتى الملل والنحل، فحينما أتعرض لموقف كهذا أعتذر بلباقة إلى مضيفي وأخبره أني لا أشرب ولا أدخن وأفضل ألا يتناول أحد الشراب أو التدخين في حضوري؛ لأن هذا يسبب الأذى لي. أما إذا كنت أنا صاحب الدعوة، وأضيّف آخرين حتى لو كانوا من الغربيين من غير المسلمين، فإني أقول لهم بوضوح تام أني لا أدفع ثمن المشروب ولا أحب وجوده على الطاولة؛ لأن هذا  أمر ديني ألتزم به ويؤذيني لو حدث، وعادة ما أجد احتراما وتقديرا والتزاما من الآخرين حينما أخبرهم بهذا.

>>> كان الدكتور غالب يؤدي الصلاة أثناء استراحات التصوير على  سجادة صغيرة في الأستوديو،
كانت جزءا من الديكور.        <<<
لكن ردة الفعل النافرة من الزملاء جعلت الدكتور غالب يشعر بالحرج  الشديد الذي بدا على وجهه، فاعتذر من فوره عن عرضه وهو يلملم نفسه وساد وجوم وصمت وتوتر قطعته بلطف قائلا للدكتور غالب: "أعتقد أن لديكم عصيرا يخفف عنا عناء تلك الرحلة الطويلة". ثم  أخذت أروي له بدعابة ما حدث معنا طوال الطريق وقصة قيادة المهندس مراد للسيارة وسحب الرخصة بعد دقائق معدودة من قيادته وذلك حتى نغير مسار الكلام وأزيل التوتر الذي حدث مع إضافة بعض مشاهد السخرية للقصة، حيث أن المهندس مراد  أصر بعدما أوقفنا شرطي المرور أن أنزل من السيارة معه حتى إذا رآني ضابط المرور ربما يعرفني ولا يقوم بسحب الرخصة. ورغم أني لا أحب هذه المواقف إلا أني ذهبت مع شروط من أهمها أني لن أتكلم على الإطلاق مع الضابط ولن أطلب منه شيئا إن عرفني وتنازل عن سحب الرخصة دون كلام كان بها. أما إن قام بإجراءاته فلن أتكلم، لكن الطامة الكبرى أن الضابط لم ينظر إلينا ولم يرفع وجهه عن الدفتر الذي كان يسجل فيه المخالفات، حتى أن مراد تعمد أن يستثيره حتى يرفع وجهه وينظر إلينا، ربما يتعرف علي، إلا أن الضابط الذي كان يقف أمامه طابور طويل من المخالفين وكان يقوم بعمله بآلية وعجلة ودون تفكير  لم يرفع رأسه، بينما كنت أكتم ضحكاتي من محاولات مراد  الذي حذرته من محاولة إحراجي .
كان الدكتور مراد غالب يتابع القصة بإنصات واهتمام بالغ  وحينما لاحظت اندماجه في القصة معي حتى قال حينما وصلت إلى  ذروة القصة التي تتلخص في سحب رخصة السيارة قال: "يا نهار أبيض!!"، شعرت حينها أن هذه القصة قد أذهبت جو الحرج الذي ساد بعد عرضه تقديم الخمور إلينا،  ثم غيرت الحديث إلى اتجاه آخر وقلت له: "إن المكان ساحر هنا، حيث يُرى البحر من كل جوانب القرية تقريبا، كما أنه خليج حركة المياه فيه هادئة". فقال لي وتعبيرات وجهه ونبرات صوته تبدو  وكأنما يتغزل فيمن يعشقها: "هل تعرف إن هذا من أجمل المناظر التي يمكن أن تراها في هذه الدنيا؟، لقد سافرت في أرجاء الدنيا ورأيت كثيرا من الأماكن الجميلة  لكن المناظر هنا في مصر من أجمل ما وقعت عليه عيناي، كم هي عظيمة بلادنا!، إني أقضي شهور الصيف كلها هنا، ولا أمل ولا أشبع من النظر والتأمل في البحر طوال الوقت".

ولكوني  أعشق البحر أنا أيضا فقد كنت أنصت  باستمتاع إلى وصفه، وكان انطباعي الأول عنه أنه رجل يجيد الوصف ورسم المشاهد والأحداث بشكل يخلب الألباب ويسيطر فيه على المستمع. كما أنه يجيد  التعبير عما بداخله بعبارات جزلة بسيطة، وأن من يجالسه لا يمل منه ويشعر بسرعة أنه قريب منه. ولكوني أحب الاستماع والإنصات، لاسيما لعذب الوصف وجميل المعاني أكثر من حبي للكلام، فقد كنت سعيدا بالإنصات إليه، وحبي للاستماع والإنصات يزداد حينما يكون المتحدث من أمثال الدكتور غالب، ولعل هذه الصفات الشخصية هي التي جعلته قريبا من كثير من الناس الذين تعرف عليهم في حياته، وجعل الكثيرين منهم بشتى تناقضاتهم يحبون إقامة علاقات معه حتى من كبار  الزعماء السوفييت رغم أنه كان في الفترة الأولى في موسكو بين عامي 1953 و1957 سكرتيرا ثالثا في السفارة، إلا أن السوفيت كانوا يقدمونه إلى السفير ويوجهون الدعوات إليه حتى أن بعض رفاقه في السفارة وشوا إلى عبد الناصر، وقالوا له: "إن  مراد غالب أصبح سوفييتيا". كما كان بعض  السوفييت يقولون له حينما يتبسطون في الحديث معه ويتحدثون عن بعض أسرارهم وخصوصياتهم: "إننا ننسى في بعض الأحيان أنك لست منا". حتى إن سائقه الروسي حينما شعر بشعبيته وقدرته على نسج العلاقات بسرعة، قال له: "لو رشحت نفسك في الانتخابات هنا فربما تصبح عضوا في مجلس السوفييت الأعلى". وحينما أعاده عبد الناصر سفيرا في موسكو عام 61 وبقي حتى استدعاه السادات عام 72، وعينه وزيرا للخارجية استطاع خلال تلك الفترة أن ينسج علاقات وثيقة عالية المستوى مع كبار الزعماء السوفييت وكان رجلا يجيد فهم ما حوله، لقد كان مراد غالب رجلا شغوفا بالمعرفة إلى آخر حياته، حتى إنه قال لي أن شغفه بالمعرفة والاطلاع جعله أثناء دراسته للدكتوراه في مجال الطب أن يقرأ أثناء ذلك مكتبة كاملة في الاقتصاد   وعلومه. كما أنه درس اللغة الروسية وأتقنها رغم صعوبتها وهي ما جعلته يفهم العقلية والنفسية السوفييتية ويقيم علاقات واسعة داخل المجتمع السوفييتي، وكان أوثقها مع خرتشوف الذي تحدث عن غالب في مذكراته. وكان مراد غالب هو السفير الوحيد الذي تحدث عنه خرتشوف في مذكراته، وقال عنه "لقد كنا نحترمه".

>>> سجلت ثماني حلقات مع الدكتور مراد غالب، أفاض فيها في الحديث عن تفاصيل كثيرة، وكشف كثيرا من الأسرار التي ربما تحدث عنها للمرة الأولى.
                   <<<

 أخذت أوجه النقاش في تلك الجلسة إلى ما يفيدني في تسجيل الشهادة معه وجاءت السيدة الفاضلة زوجته فشاركتنا جانبا من الحديث، لاسيما حينما ذهبت بصحبته إلى موسكو عام 1953، وانطباعاتها الأولى عن تلك الدولة في ذلك الوقت، ثم علقت التعليق الذي أسمعه دائما ممن يقابلني للمرة الأولى: "تبدو ألطف كثيرا في الحديث عن الشكل الذي تظهر فيه  في التلفزيون حيث تبدو حادا وقاسيا مع ضيوفك، وكأنك في خصومة كبيرة معهم، لكنك شخص آخر هنا". فقلت لها ضاحكا: "سأكشف لك سرا لا يعلمه كثير من الناس". قالت بشغف "ما هو؟". قلت لها: "الحقيقة أن هناك شخصا آخر يتلبسني حينما أجلس أمام الكاميرا  وأتعجب مثلكم تماما مما يفعله مع الضيوف، وأغضب أحيانا منه مثلكم، وأستنكر ما يقوم به، فأقول ما هذا الذي يفعله أحمد  منصور؟!
 "فضحكنا جميعا وتحول الجو إلى الألفة والتبسط".
 ولخوفي أن ينقضي الوقت في الحديث ويفوت موعد الصلاة قلت للدكتور غالب ببراءة تامة: "الآن لدينا فاصل قصير. هل يمكن أن أجد لديكم سجادة لأؤدي صلاة المسافر للظهر والعصر قبل أن يفوت الوقت؟". إلا أن الوجوم ساد بعد سؤالي، فلم أتخيل أن يكون سؤالي محرجا إلى الحد الذي ظهر على وجه الدكتور غالب،  فقد نظر إليّ بحرج بالغ وتعجب من طلبي لسجادة الصلاة، وكأني قادم من كوكب آخر. وقال لي بعد صمت وتردد: "أخشى أن يكون طلبك هذا عزيزا، للأسف الشديد، ليس لدينا سجادة صلاة". ثم ازداد حرجه وهو يحاول البحث عن مخرج  لكني استدرجت بسرعة، وقلت له بسرعة: "لا بأس، لا بأس، سأدبر حالي، ولكن أرجو أن تسمح لي بالذهاب إلى أي غرفة خالية  لأؤدي الصلاة فيها ثم أعود". كان الحديث أمام أحد الخدم الذي أسعفني بقطعة قماش نظيفة صليت عليها، وكذلك فعل رفاقي الواحد تلو الآخر، ثم عدت حيث تناولنا الغداء وواصلنا النقاش معه حتى المساء.
لكن ظهرت هناك مشكلة من الناحية الفنية للتسجيل، فقد أبلغني مهندس الإضاءة أن المكان لا يصلح

>>> أعدت مشاهدة حلقات "شاهد على العصر" التي سجلتها معه، فوجدتها من أهم الشهادات التي سجلتها مع مسؤولين مصريين حول تاريخ مصر الحديث.
                      <<<
للتصوير نهارا، كما أن التصوير ليلا سيكون مستحيلا؛ لأن المكان المرشح للتصوير ليلا سيكون مفتوحا، ولا نضمن تواجد البعوض حول الإضاءة، وبالتالي لم يعد لدي مجال للتسجيل إلا في القاهرة. فسألت الدكتور غالب عن موعد عودته للقاهرة، فقال لي: "سأعود في أكتوبر". شعرت بشيء من خيبة الأمل إلى حد ما؛ لأني كنت مهيأ من الناحية النفسية للتحضير والدراسة ثم تحديد موعد للتسجيل خلال شهر أو اثنين على الأكثر. كما أني حضرت معظم الكتب عن المرحلة التاريخية التي سأتناولها معه، ولم يبق لي سوي جلسات الاستماع معه ثم البدء في دراسة المرحلة وتحديد موعد التصوير، لكن كل ذلك أصبح في حاجة وإلى إعادة جدولة من جديد؛ لأن لدي أسفارا أخرى خارج مصر من سبتمبر إلى نهاية ديسمبر فقلت له: "ولكني للأسف لدي ارتباطات وأسفار كثيرة خارج مصر حتى نهاية ديسمبر، ويصعب علي تأجيلها فلن أستطيع العودة قبل نهاية ديسمبر".  فقال: "إذن نحدد موعدا بعد ذلك".
في تلك الفترة كان التعب والإرهاق والأسفار المتلاحقة قد بلغت بي مبلغها فقررت في نهاية العام 2006 أن أوقف تقديم "برنامج شاهد على العصر"،  إلى حين، وأن أتفرغ فقط لبرنامج "بلا حدود"، حتى آخذ قسطا من الراحة، لاسيما وأنا المنتج والمقدم للبرنامجين والمسؤول عن تحديد  الأفكار والضيوف وأقضي الليل والنهار في الإعداد  والدراسة وألاحق الضيوف من بلد إلى بلد وبعضهم أقضي معه عدة أشهر وأحيانا سنوات حتى أقنعه بالتسجيل. فالكثير من الناس حتى المسئولون السابقون لديهم حساباتهم الخاصة مما يجعلني أدخل معهم في مفاوضات شاقة ومطولة لا يشعر بها المشاهد مما يجعل جهدي شاقا ومرهقا. وبالفعل  أبلغت إدارة قناة "الجزيرة" بأني سأوقف تقديم  برنامج "شاهد على العصر" لمدة عام أو لعدة أشهر على الأقل، حتى أرتاح قليلا من عناء الأسفار المتلاحقة و العمل الدءوب في برنامجين شاقين في آن واحد هما "بلا حدود"، و" شاهد على العصر"، حيث لا أجد وقتا لعائلتي أو حتى  لنفسي، وبعد جهد ونقاش مطول وافق رئيس مجلس الإدارة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، على ذلك، لكنه اشترط عليّ أن يكون التوقف لعدة أشهر. وبالفعل بعد عدة أشهر  طلب مني الشيخ حمد بن ثامر الذي تربطني به علاقة أخوة وصداقة في نفس الوقت أن أبدأ مرة أخرى في إعداد وتقديم "برنامج شاهد على العصر"،  لاسيما وأن فترة الاستراحة التي طلبتها قد انقضت، فطلبت منه أن يمهلني عدة أشهر أخرى، لكنه قال لي بدعابة: "يكفيك هذا يا أحمد    وعليك أن تبدأ في أقرب فرصة".
كان الدكتور مراد غالب أول من فكرت  بالاتصال به، وكان ذلك قبيل صيف العام 2006، لكنه كان سيذهب في الصيف كعادته إلى الساحل الشمالي  والتسجيل مستحيل هناك. فأعددت نفسي أن أسجل معه في الشتاء حينما يعود للقاهرة، وبالفعل اتفقنا على ذلك. وصلت إلى القاهرة فاتصلت عليه لأعيد جلسات الاستماع معه، حيث كان قد مضى عامين على لقائي السابق معه. علما بأني بدأت الاتصالات الأولي به من أجل التسجيل في العام 2002، وأنا أحرص دائما على أن أقضي مع ضيوفي كثيرا من الوقت في الحديث والدردشة قبل التسجيل، لاسيما شهود العصر، لأفتح مجالات لنفسي للنقاش والفهم، وأحدد مسار الحلقات ومسار التحضير والقراءة التي تستغرق مني عادة مع كل ضيف عدة أسابيع وأحيانا أشهرا. كذلك أزيل شيئا من الرهبة والحواجز النفسية التي أجدها لدى بعض الضيوف،  أو أمارس شيئا من محاولات الإقناع إن كان لدى الضيف تحفظ من الخوض في مسألة من المسائل، وفي النهاية أحدد مع الضيف موعد بداية التسجيل.
حينما سمع صوتي قال لي عبارته الشهيرة التي كانت تشعرني بالقرب منه "أحمد، إنت فين يا راجل ؟!". قلت له: "أنا في القاهرة، وجئت للقائك". قال: "لكن أنا لست في القاهرة، ولكني في مكان بعيد؟".  قلت له: "هل هو أبعد من الساحل الشمالي؟". قال:  "لا". قلت: "لقد جئتك في خمس ساعات إلى  الساحل الشمالي، وبالتالي فأي مكان آخر أنت فيه سيكون  قريبا لي". وصف لي مكان إقامته في إحدى المزارع على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي حيث بنى هناك فيلا يخلو فيها مع نفسه  في عمق الصحراء.
حينما لقيت الدكتور مراد غالب هرة المرة لم أتخيل  حجم التحول الهائل الذي وقع  في حياة الرجل وتفكيره وآرائه خلال العامين اللذين غبت خلالهما عنه، واكتفت علاقتي به بالتواصل عبر الهاتف، أو من خلال السؤال عنه من خلال صديقي وابن أخيه المهندس محمد مراد. فالرجل الذي عرض علي في اللقاء الأول أن يضيفني بشتى أنواع الخمور، ولم  أجد لديه سجادة للصلاة وجدته هنا في الصحراء شخصا آخر،  يكثر الحديث في كلامه عن الكون وخالقه والعلاقة بالله. حتى أني شعرت أن هذه الفيلا التي بناها في قلب الصحراء والتي يقضي فيها  نصف أيام الأسبوع- كما أخبرني- وكأنها صومعة راهب يخلو فيها ليتعبد ويتفكر في الكون وخالقه على طريقته الخاصة. وإذا به أثناء الحديث يؤكد لي ذلك، فأنا لم يسبق لي أن تحدثت معه أو ناقشته في معتقداته الخاصة، وعادة ما لا أخوض مع الآخرين في معتقداتهم، ولم أعلق على التحول الذي لا حظته بين زيارتي الأولى والثانية، ودون أن أخوض معه في خصوصياته أوحي لي أنه حاول أن يستعيد في خلواته في الصحراء كثيرا مما فاته في حياته، وكثيرا مما لم ينتبه إليه، وأنه يقضي الوقت في القراءة والتأمل والتفكير بعيدا عن البشر ولا يوجد حوله إلا العمال والخدم. قضيت معه معظم اليوم وهو يتحدث بإسهاب، أتركه عادة لضيوفي في جلسات الاستماع والتحضير هذه، فأخذ يتحدث   وأنا أدون ملاحظاتي وأنتقل من فقرة إلى أخرى، وأنا أشعر معه أني خارج نطاق الزمن، فشعرت أني أمام كنز إنساني وخبرة هائلة في الحياة والناس والفكر والسياسة، وليس مجرد "شاهد على العصر".
حدثني عن أشياء كثيرة منها أمور شخصية وحياتية وعلاقات إنسانية ورؤى سياسية. وكان مما حدثني عنه ابنتيه المهاجرتين إلى كندا "مني وهدى" وأحفاده منهما، وكم يشعر بالأسى؛ لأنهم أصبحوا مثل الكنديين أو كنديين- كما قال بالنص- وكم كان يتمنى أن يعودوا إلى مصر جميعا للإقامة فيها،  وأنه يحاول إغراءهم بالأماكن الجميلة في مصر لعلهم يفكروا في العودة والإقامة؛ لأنه يتمنى أن تكون أيامه الأخيرة إلى جوارهم. ثم حدثني بألم عن أسباب الهجرة لكثير من المصريين في بلد لم يكن أهلها يفكرون في الهجرة منها قبل خمسين عاما بل كانت على مدار التاريخ بلدا يشكل جذبا لكل من يعرفه حتى يهاجر إليه ويقيم فيه، وكانت فيه جاليات مقيمة من كل أصقاع الدنيا، لا زال هناك بقايا من أهلها (يونانيون وأرمن وفرنسيون وإيطاليون) بخلاف كثير من العرب والعجم الآخرين. وقبل أن ينقضي اليوم أخذني في جولة داخل الفيلا وخارجها، وقال لي إنه بصدد شراء جهاز جديد لطرد الناموس والحشرات ليلا خارج الفيلا؛ لأنه يحب صفاء الليل  ويحب أن يقضيه خارج الفيلا ليتأمل في السماء. ثم قال لي بجدية: "لا بد أن تفكر من الآن في أن يكون لك بيت مثل هذا هنا في عمق الصحراء ستشعر أنك ستعرف الطعم الحقيقي للحياة حينما تخلو فيه مع الكون وخالقه بعيدا عن الناس وعن صخب الدنيا". ثم انتقل من مجرد الطلب إلى أن قال لي بجدية: "يوجد هنا قطع معروضة للبيع يمكن أن تشتري واحدة منها إن فكرت في الأمر، لا تتردد ولا تأخذ قطعة كبيرة، وإنما صغيرة مثل قطعتي فقط فدانين كافيين، تبني عليها فيلا صغيرة وحديقة جميلة، مثل هذه تكون ملاذك من صخب الحياة، لن تندم، وستشعر أن للحياة مذاقا آخر".
 ودعته مع نهاية اليوم ثم جلست معه مرات أخرى أنصت إليه وأدون ملاحظاتي وهو يتحدث عن تفاصيل بعض الأدوار السياسية التي قام بها، وكيف كانت علاقته مع جمال عبد الناصر، ثم بأنور السادات من بعده، ولماذا اختلف مع السادات وقدم له استقالته عبر خطاب حاد، حيث كان سفيرا في يوغوسلافيا آنذاك، وذلك احتجاجا على ذهاب السادات إلى القدس عام 77، وكان هو الوحيد من السفراء مع الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان سفيرا لمصر في لندن اللذين قدما استقالتهما احتجاجا على زيارة السادات للقدس، ومعهما وزير الخارجية آنذاك إسماعيل فهمي.
 ثم حددت معه موعدا للتسجيل، وما حدث أثناء التسجيل لم أكن أنتظره أو أتوقعه من رجل كان ما يقدمه لضيوفه قبل سنوات هو كل أنواع الخمور، ولم يكن في بيته سجادة صلاة، فقد كان الدكتور غالب يؤدي الصلاة أثناء استراحات التصوير على سجادة صغيرة في الأستوديو، كانت جزءا من الديكور الذي صممه ونفذه بإتقان وبراعة ابن أخيه المهندس محمد مراد. ولم أكن ألتفت لنوع السجادة الصغيرة التي اشتراها مراد ووضعها في جانب من أرضية الديكور لكنها كانت تبدو فخمة، فكان تعليق الدكتور غالب عليها بعدما أدى الصلاة أنها " سجادة من الحرير الممتاز".  فقلت له: "إن الذي اشتراها هو المهندس مراد وقد اهتم بك كثيرا وبكافة تفصيلات الديكور". حتى أني حينما أخبرته وأنا أتفق معه على بناء الديكور "أن عمك هو أول من سأقوم بالتصوير معه فيه بذل جهدا كبيرا في كل تفصيلاته وتفنن في إتقانها إكراما لك". فأثنى الدكتور غالب علي المهندس مراد ثم قال: "لقد كان هذا رأيي فيه منذ أن كان طفلا صغيرا، وقلت لهم إن هذا ولد ذكي وسوف ينجح في الحياة، وحينما أراد أن يدخل معهد السينما اعترضت العائلة كلها بشدة على ذلك، لكني أنا الذي وقفت إلى جواره حتى دخل معهد السينما، ودرس الديكور وأصبح ناجحا كما توقعت له. لكني لم أتخيل أن يأتي يوم يعد فيه الديكور البرنامج سيسجل معي. ولهذا فأنا سعيد". فقلت له: "أنا لا أنسى أن أول برنامج قدمته من القاهرة قبل حوالي عشر سنوات كان هو الذي أعد الديكور الخاص به، ومن يومها قامت صداقة بيننا لكنه كان مهندس ديكور صغيرا آنذاك"، ضحكنا جميعا ثم واصلنا تسجيل الحلقات.
سجلت ثماني حلقات مع الدكتور مراد غالب، أفاض فيها في الحديث عن تفاصيل كثيرة تتعلق بالأشخاص والأحداث، وكشف كثيرا من الأسرار التي ربما تحدث عنها للمرة الأولى. كما قدم وصفا وقراءة لكثير من الشخصيات التي لعبت دورا في فترة الخمسينيات والستينيات في مصر. تحدث باستفاضة عن العلاقة الخاصة التي ربطته مع صلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي مع  الفريق عزيز المصري، وعن دوره في الثورة وما بعدها في الوقت الذي كان يحتفظ فيه بعلاقات خاصة مع العائلة الحاكمة، وكيف أن عبد الناصر أبعده سفيرا في موسكو حتى يتخلص منه، ومن وساطاته الدائمة لمن تبقى من عائلة محمد علي في مصر. ثم تحدث باستفاضة شديدة عن عبد الناصر وتركيبة شخصيته ونفسيته من كافة الجوانب وكيف كان يدير الدولة، لاسيما وأن غالب مستشارا سياسيا له لمدة عام. كما تحدث عن الرجال الذين كانوا حول عبد الناصر، لاسيما عبد الحكيم عامر، وكيف كانت علاقة كلا الرجلين ببعضهما، وعلاقة كل منهما  بالسوفييت، وكيف أن السوفييت كانوا ينظرون دائما إلى عبد الناصر أنه رجل الولايات المتحدة الأميركية، وكيف كان رأي خرتشوف في عبد الناصر وإدارته للدولة، وكيف صارح خرتشوف عبد الناصر بذلك أثناء زيارة خرتشوف لمصر، وكيف غضب عبد الناصر من ذلك وطلب من غالب أن يأخذ خرتشوف إلى الفندق، فغضب خرتشوف وقال لمراد غالب "قل لصاحبك عبد الناصر إذا كان يريد بناء مصر فعليه أن يبني الأنسان المصري أولا". كما تحدث عن أسباب حب السوفييت لعبد الحكيم عامر أكثر من جمال عبد الناصر، بل ظلوا ينظرون إلى عبد الناصر حتى النهاية على أنه رجل أميركا، وكيف كان السوفييت يتعاملون مع المصريين، لاسيما في مجال التسليح وقصة صفقة السلاح الأولى لمصر في سبتمبر عام 1955، التي سبقت بصفقة الأسلحة التشيكية، ولماذا لم يكونوا يقدموا للمصريين أحدث أنواع السلاح، وكان دعمهم لمصر من أجل أن تدافع عن نفسها، وليس من أجل أن تزيل إسرائيل؛ لأن إسرائيل كانت خطا أحمر. وشرح بإسهاب كيف كان الزعيم السوفييتي خرتشوف يحب مصر، وكيف أعطى لمصر والمصريين ما لم يعط أي قطر آخر موال للسوفييت حتى أنه كان من أسباب إقالته اتهامه من قبل مجلس السوفييت الأعلى بأنه أعطى للمصريين ما هو أولى أن يعطيه للشعب السوفييتي. كما كشف كثيرا من التفصيلات والأسرار عن أزمة الكونغو التي وقعت عام 61، حيث كان سفيرا لمصر هناك، وطبيعة الدور المصري في إفريقيا آنذاك، وكيف قام غالب بتهريب عائلة الزعيم لومومبا إلى  مصر.  ثم تحدث عن هزيمة العام 67 وأسبابها وكيف لعبت العلاقة المعقدة والصراع بين عبد الناصر وعامر على الجيش دورا رئيسيا في وقوعها، وكيف قاد الصراع بينهما إلى الهزيمة.
ومن آخر ما كشفه فيما يتعلق بهزيمة العام 67 تفاصيل زيارة شمس بدران وزير الحربية المصري إلى موسكو قبيل أيام من الهزيمة، تلك الزيارة المثيرة للجدل والتي ذكر فيها بدران أن السوفييت تعهدوا بالوقوف إلى جوار مصر إذا نشبت الحرب، بينما نفى غالب ذلك نفيا قاطعا كشاهد عيان على كافة تفاصيل الزيارة. الأخطر من ذلك أن غالب أكد أنه أبلغ عبد الناصر أن الحرب سوف تندلع يوم الخامس من يونيو وذلك أبلغه التشيك لكنه لم يفعل شيئا لأنه لم يكن يستطيع لأن الجيش كله كان تحت سيطرة عبد الحكيم عامر آنذاك.
كانت خطتي بعد جلسات الاستماع والحوارات المطولة ودراسة الفترة التاريخية من كثير من الكتب طوال ثلاثة أشهر، أن أسجل عشر حلقات مع الدكتور مراد غالب، غير أني سجلت ثمانٍ فقط، وبقيت حلقتان عن الأيام الأخيرة في حياة عبد الناصر وصراعه مع عامر، وعلاقة غالب بعد ذلك مع السادات، فأبلغته أني مضطر للسفر لارتباطات أخري مسبقة في برنامجي الآخر "بلا حدود" أقدمها من عدة أقطار، وسأعود لاستكمال الحلقتين في أقرب فرصة. اتصلت به بعد ذلك وحددنا أكثر من موعد، لكنه كان يعتذر هو عن بعضها لظروف طارئة، وكان من الصعب علي أحيانا أخرى أن أغير اتجاه أسفاري وارتباطاتي الكثيرة. وكان آخر موعد حددته معه في شهر مايو الماضي 2007 لكنه اتصل بي واعتذر قبيل الموعد بأيام، وقال إنه طرأ لديه ارتباطات قد تمتد لأسبوعين، فأبلغته أن لدي دورة دراسية في بريطانيا قد تمتد لثلاثة أشهر تنتهي في سبتمبر. فأخبرني أنه سيذهب أيضا   لزيارة بناته وأحفاده في كندا، فاتفقنا على أن نتواصل بعدها. لكنه لم يعد من كندا إلا في شهر نوفمبر. اتفقنا بعد عودته من كندا أن نلتقي في مصر في منتصف  يناير لاستكمال الحلقتين المتبقيتين كما اتفقت معه على أن أقدم معه حلقة في برنامجي الآخر "بلا حدود" على الهواء مباشرة  حول موضوع تناقشت معه مطولا فيه وهو  "فرص التنمية المهدرة في العالم العربي ووسائل النهوض بالإنسان"، وهو موضوع كان يلم به إلماما كبيرا  وسبق أن قضينا وقتا ممتعا في النقاش حوله، غير أن أقدار الله سباقة فقد توفي الدكتور مراد غالب بشكل مفاجئ صباح يوم عرفة، الثلاثاء، الموافق الثامن عشر من ديسمبر الماضي 2007 عن عمر ناهز الخامسة والثمانين. وكان آخر ما قام به هو أنه رأس قبيل وفاته بيومين ندوة نظمتها منظمة "تضامن الشعوب الأفرو- آسيوية" التي كان يرأسها عن العلاقات العربية- الإيرانية والتطورات في أزمة الملف النووي الإيراني. حقا لقد تألمت حينما علمت بالخبر، ليس لأني لم أكمل تسجيل الشهادة معه، فقد سجلت معه لب شهادته عن العلاقات المصرية- السوفيتية، ولم يبق إلا القليل الذي لن يؤثر كثيرا علي  مجمل الشهادة. وعادة لا آسى على شيء فاتني فكل شيء بقدر، ولكن لا أدري ما الذي جعلني أشعر بقرب نفسي من هذا الرجل صاحب الهدوء النفسي العجيب، لاسيما بعد جلسات النقاش المطولة في جو الصحراء النقي والصافي، حتى أني شعرت للحظات  أن أهل الدكتور غالب حينما توفي  لم يكونوا وحدهم  يتلقون العزاء فيه بل إني فوجئت أن معظم زملائي الذين كانوا يعرفون أني سجلت معه أو شاركوا معي في أي من مراحل تنفيذ  الحلقات يتصلون بي ويبلغوني العزاء فيه، رغم أني لا أمت له بصلة قربى، أعدت مشاهدة حلقات "شاهد على العصر" التي سجلتها معه، والتي بدأت قناة "الجزيرة" بثها قبل أيام بعدما كتبت معظم هذا المقال فوجدتها بحق من أهم الشهادات التي سجلتها مع مسؤولين مصريين حول تاريخ مصر الحديث، لاسيما سنوات الخمسينيات والستينيات، وأعتقد أنها سوف تثير خلال بثها الذي بدأ الآن على شاشة قناة "الجزيرة"  نقاشات جادة ومطولة بين المثقفين العرب بشكل عام والمصريين بشكل خاص لما فيها من مصداقية عالية في الحديث وتناول لقضايا كثيرة   تعتبر حساسة، وربما لم يتحدث عنها أحد بشكل واضح من قبل. فالرجل كان يتحدث حديث المودع للدنيا الذي يقول "ما يؤمن به دون أن يخشى لوما من هذا أو نقدا من ذاك"، ويكشف عن أمور كثيرة ربما للمرة الأولى، رحمه الله رحمة واسعة.
 



مصادر الموضوع:
1)http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=86981&IssueID=893
2)http://www.paldf.net/forum/showthread.php?t=236179
3)http://www.youtube.com/results?search_query=%D8%B4%D8%A7%D9%87%D8%AF+%D8%B9%D9%84%D9%8A+%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AF+%D8%BA%D8%A7%D9%84%D8%A8&aq=f